الصفحة الرئيسية >بدون طيار >أبطال في الذاكرة وصفي عمّاري من «الهوكر هنتر» إلى «البوينغ 707»
Jun 19بواسطة الذكية منظمة العفو الدولية.

أبطال في الذاكرة وصفي عمّاري من «الهوكر هنتر» إلى «البوينغ 707»

مجدي دعيبس

السؤال الذي قد يتبادر إلى ذهن القارئ هو: لماذا أنشر هذا المقال في الصّفحة الثّقافيّة التي تُعنى بالمواضيع والأخبار الأدبيّة والصحافة الثقافية، وليس في مجلّة متخصّصة بالنواحي العسكريّة والتاريخيّة؟ أقول بكل بساطة لأنّ البطولة -كانت وما زالت- من محرّكات الخيال الإبداعيّ ومحفّزات العمل الأدبي. الحكايات جزء من شخصية الشعوب، والحكاية تنطوي على ملمح من ملامح البطولة. لكل الشعوب مرويّات شفاهية تتناقلها الأجيال من جيل إلى آخر وهي الحكاية الشعبية أو الأهزوجة التي تعكس الثقافة والعادات والتقاليد والقيم والبيئة، الحكاية هي المرآة التي يرى فيها الإنسان صورا من ماضيه وحاضره ومستقبله:

«شباب قوموا العبوا

والموت ما عنّو

والعمر شبه القمر

ما ينشبع منّو

يا بنت يا مدلّلة

حمّلتِ أبوكِ دين

أربع قلايد ذهب

والعقد أبو ميّة

لو حمّسوني حميس

البنّ في المحماس

لأتبع هوى صاحبي

واترك هروج النّاس».

أبطال في الذاكرة وصفي عمّاري من «الهوكر هنتر» إلى «البوينغ 707»

هذه الملامح التراثيّة يجب أن تبقى رطبة على لساننا حتى لا تجفّ ويطويها النسيان، حتى لا ينسى من يعرف، وحتى نزرع في وجدان الأجيال التي لم تكن قريبة من تلك المرحلة أنّ الأردنيّات ما زلن يُرضعن حليب المروءة والجرأة إلى آخر الدّهر:

«ما حَضَرْتِنْ يُوم سَمَخ يا بَنَات

لَوْ حَضَرْتِن كَانْ جِيتِنْ فَارْعَاتْ

طَيّارَه بْوَسْطْ السَّمَا يا حِيفِي

ضَرْبَت عَ كايد على لَمْع السِّيفِ

طَيَّارهْ وَسْطْ السَّمَا طيَّارهْ

ضَرْبَت عَ كَايِد يُوم قَادْ الغَارَهْ».

كنتُ في مقالة سابقة قد كتبتُ عن خضر شكري يعقوب، وفي أخرى كتبتُ عن معركة تل الذّخيرة، واليوم نستذكر أحد أبطال «الهوكر هنتر» الذي شارك في حرب 1967 وهو الطيّار وصفي عمّاري، وربّما في مقالة لاحقة نتحدّث عن باقي رفاق فراس العجلوني وموفق السلطي الذين حاربوا بشجاعة وشراسة يشهد لها الدّاني والقاصي.

ولد وصفي عمّاري في قرية الحصن عام 1939، والتحق بسلاح الجو الملكي عام 1957 وتلقّى تدريبًا على الطّيران في المملكة المتّحدة لمدة عامين. تسلسل في الرتب والمناصب واكتسب خبرة على طائرة الهوكر هنتر أهّلته لمقارعة طائرات الميراج الإسرائيليّة الحديثة. بعد الحرب عمل كضابط ارتباط في واشنطن ثم أصبح قائدًا لقاعدة الأمير حسن الجويّة وفي عام 1975 أُحيل على التقاعد بناء على طلبه ليعمل في الخطوط الجويّة الملكيّة لخمسة وعشرين عامًا، ويقود أحدث الطائرات من طراز بوينغ 707، وفي سنوات عمله الأخيرة أصبح طيار المغفور له جلالة الملك حسين بن طلال وقاد طائرة تراي ستار حتى وصل عمر الستين حيث توقف عن الطيران حسب التّعليمات المعمول بها.

عن حرب 1967 يقول وصفي عمّاري في لقاء وجدته على اليوتيوب أجراه موقع خبّرني حول تلك الذكريات: في أول أيام الحرب كنتُ في دورية حماية فوق قاعدة الملك حسين الجويّة (المفرق) ضمن تشكيل جوي مع الطّيّار الباكستاني سيف الدين الأعظم –الذي كان معارًا من سلاح الجو الباكستاني- عندما توجّه إلينا المسيطر الجويّ صخر سميرات من رادار عجلون بوجود تشكيل معادي على بعد سبعة أميال غرب محطّة الرّادار ويتجه نحو الشرق. عندما وصلنا إلى جرش شاهدنا أربع طائرات إسرائيليّة ودخلنا في اشتباك معها ولكن بسبب التشويش على الاتصالات الجويّة وفقدان التواصل بيننا فضّل الطّيّار الباكستاني العودة إلى القاعدة لحمايتها من الطائرات المغيرة حيث قام بإسقاط إحداها بالقرب من القاعدة. يتابع وصفي عمّاري حديثه بسرد تفصيلات المعركة: بعد أن قمتُ بمناورة للإفلات من نقطة تسديد إحدى الطائرات وجدتُ نفسي بين طائرتي ميراج؛ أطلقت النّار على التي أمامي فرأيتها تسقط بعد أن تصاعد الدّخّان منها، وفي الوقت عينه أصابتني الطائرة التي خلفي في الذيل فأصبحتْ الطائرة غير مسيطر عليها. حاولتُ التّملّص من الطّائرة الإسرائيليّة لكنّها كانت تتسلق لمسافات أعلى مني ولم يعد أمامي سوى القذف بعد أن أصابتني مرّة أخرى في الجّناح. هبطتُ بالمظلة في منطقة برما بالقرب من جرش واصطدمتُ بشجرة حيث قام الأهالي بإسعافي بعد أن تأكدوا من هويّتي. بينما كنتُ في منزل من أسعفونني، جاء أحد الموظفين في متصرفيّة جرش ليخبرني أنّ جلالة الملك أتّصل ليسأل عني أكثر من مرّة. في المستشفى تبيّن من خلال الصور أنّ إحدى فقرات العمود الفقري متضرّرة، فمكثت شهرين في المستشفى لتلقّي العلاج.

ما لفتني في تلك المقابلة ما ذكره وصفي عمّاري عن أول رحلتين له في الخطوط الجوية الملكية بعد أن أصبح كابتن حيث كانت الأولى إلى العقبة وعاد إلى عمان دون أن يهبط في مطار العقبة لأنّه لم يتمكن من رؤية المدرج بسبب التضاريس الصعبة وضرورة التّقرب من المطار بأسلوب محدد، والثانية كانت إلى القاهرة وقرّر العودة إلى عمان أيضًا بسبب الغبار ومحدوديّة مدى الرؤية. أحيانا على الإنسان أن يكون جريئًا حتى يتغلب على مخاوفه من الحسابات التي يمكن أن يضمرها الآخرون من قلّة الكفاءة والخوف وخّاصة في البدايات التي تترك الانطباع الذي لا يُنسى. هذا الأمر برأيي يتطلب ثقة عالية بالنفس وحكمة. في بعض الأحيان يتطلب التراجع للخلف شجاعة أكبر من تلك اللازمة للتقدم إلى الأمام.

في كل المعارك الجويّة التي خاضها أبطال الهوكر هنتر سواء في معركة البحر الميت (1964)، أو معركة السّمّوع (1966) أو حرب حزيران (1967) كانت طائرات الهوكر هنتر تواجه طائرات الميراج أو السوبر مستير. وما يجدر ذكره هنا أنّ طائرات الميراج الفرنسيّة الصنع تتفوق على طائرات الهوكر هنتر البريطانيّة من حيث السرعة والمدى والتّسلّق وأجهزة الملاحة والرّادار والتّسليح؛ فقد كانت الميراج مجهّزة برشاشين عيار (30) ملم وصواريخ جو – جو، بينما طائرة الهوكر هنتر غير مجهّزة بمعدّات الملاحة والرادار والصواريخ ولديها فقط أربعة رشاشات عيار (30) ملم. لا أريد أن يتحوّل المقال إلى موضوع في مقارنة القوى، ولكن أودّ التّنويه إلى أنّ تفوّق السرعة والتّسلّق لارتفاعات عالية له علاقة مباشرة في القدرة على المناورة والاعتراض والتّملّص، وأنّ أجهزة الرادار المحمول على الطائرة تمكّن الطّيّار من كشف الطائرات المعادية من مسافة بعيدة دون الاستعانة بمحطة الرادار الأرضي وبالتالي التّهيؤ للقتال وأخذ الوضعية المناسبة للاشتباك وربّما إطلاق صاروخ على الهدف المعادي دون أن يتمكّن الطّيّار المقابل من رؤية الطائرة التي أطلقت الصاروخ. ما أريد أن أخلص إليه أنّ أبطال الهوكر هنتر أسقطوا طائرات الميراج الإسرائيليّة كما هو معروف على الرغم من رجحان كفّة الأخيرة تكنولوجيًّا وتسليحًا. البطولة تعرف دومًا كيف تصل إلى زغاريد الأمّهات وحكايات الجّدّات. البطولة لا تعرف حسابات الربح والخسارة ولا تحتاج سوى قلب ثابت ومروءة بحجم السّماء:

«وما في الشجاعة حَتْفُ الشجاعِ

ولا مدَّ عمر الجبان الجبن

ولكن إذا حانَ حينُ الفتـــــى

قَضَى ويَعيش إذا لم يَحِن».

صدق شوقي ورحم الله موفق وفراس ومعاذ وباقي شهدائنا الأبرار.