الصفحة الرئيسية >بدون طيار >المؤرخ بياض: التراث والإرادة والواقعية .. أسرار نجاح التجربة الصينية
Mar 18بواسطة الذكية منظمة العفو الدولية.

المؤرخ بياض: التراث والإرادة والواقعية .. أسرار نجاح التجربة الصينية

أصدر المؤرخ المغربي الطيب بياض مؤخرا كتابا في الرحلة بعنوان: “اكتشاف الصين”، وهو عبارة عن ملاحظات وتأملات دونها إبان زيارته إلى بلد التنين سنة 2018، اطلع خلالها على تجربة نجاح ملهمة انتقلت بفضلها الصين من بلد يعج بالفقراء إلى اقتصاد قوي يضرب له ألف حساب.

وقد صدر هذا الكتاب عن “دار الحكمة” ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق بالدار البيضاء حيث يشتغل الطيب بياض أستاذا جامعيا، وله مؤلفات عدة، من بينها “الصحافة والتاريخ” الذي صدر سنة 2019.

ويقدم بياض في كتابه الجديد ملاحظات وتأملات عن نجاح التجربة التنموية الصينية بعدما زار عددا من المدن والقرى الصينية التي تميزت في محاربة الفقر وتحقيق التنمية، حيث ربط هذا النجاح باستلهام الصينيين تراثهم الفكري والفلسفي والروحي، إلى جانب الإرادة في تحقيق التميز بإصرار وتوفير شروط تحققه، ناهيك عن الواقعية والتواضع من موقع القوة.

ويترافع المؤرخ عبر كتابه عن المغرب ويقدمه كجسر ذهبي للصين نحو إفريقيا في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، نظرا لما يتمتع به على مستوى الموقع الجغرافي والبنية التحتية واللوجستيك، والترسانة القانونية والمؤسساتية، والبنية التحتية البنكية والمالية، والبنية التحتية في مجال الاتصالات، والاستقرار السياسي، والرؤية الصناعية الاستشرافية.

هذا نص الحوار:

بداية، كيف بدأ اهتمامك بالصين وصولا إلى الزيارة الميدانية ثم كتابة النص الرحلي؟

يعود اهتمامي بالصين إلى سنوات الدراسة الجامعية من خلال اطلاعي على رحلة ابن بطوطة، وعلى بعض الدراسات المتعلقة بتاريخ الصين ضمن مادة الشرق الأقصى، ثم الأدبيات التي اعتنت بتجربة ماو تسي تونغ والثورة الثقافية ونظرية العوالم الثلاثة وغيرها. لذلك كنت نوعا ما مهيأ للاهتمام العلمي بالموضوع عندما طُلب مني سنتي 2016 و2017 ال في ندوتين علميتين مخصصتين لموضوع الصين وعلاقتها بالمغرب وإفريقيا، من تنظيم جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء ومعهد كونفوشيوس بالمدينة نفسها. ولم أكن يومها أفكر مطلقا في زيارة هذا البلد، إلى أن تلقيت اتصالا هاتفيا صباح يوم الجمعة 11 ماي 2018 من الزميل والصديق عبد المجيد الجهاد، المدير المغربي لمعهد كونفوشيوس بمدينة الدار البيضاء، يسأل عن استعدادي للذهاب بعد أقل من أسبوعين في رحلة إلى الصين، قد تمتد لأكثر من عشرة أيام. ساعتها كنت مُركزا اهتمامي على مشروع علمي يصعب الانشغال عنه بأي أمر آخر، كما شرحت ذلك في نص الرحلة، لكن حدث أن تيسرت الأمور بشكل لم أتوقعه بالمرة، وقيض لي أن أرحل إلى بلاد الحكيم كونفوشيوس.

ولما كان لي استئناس سابق بأدب الرحلة؛ إذ أصدرت سنة 2016 كتاب “رحالة مغاربة في أوروبا بين القرنين السابع عشر والعشرين، تمثلات ومواقف”، فقد كانت لدي رغبة دفينة في أن أكتب، يوما ما، نص رحلتي إلى بلد ما، شريطة أن تتوفر عناصر الثراء الجديرة بأن يتم تدوينها وتقاسمها مع القراء. لذلك عكفت على تدوين يوميات الرحلة في حينها، والتقطت مجموعة من الصور ذات الطبيعة التوثيقية، وجمعت ما يكفي من الوثائق التي كانت توزع علينا ضمن برنامج الرحلة الكثيف والمتنوع، والتي كانت عبارة عن دلائل توجيهية. ثم تركت الأمر يختمر لمدة سنتين، قدرت أنها كانت كافية لأخذ المسافة مع الموضوع، حتى لا أكتب تحت تأثير الانبهار، قبل أن أخرج عدة التدوين زمن الحجر الصحي في ماي سنة 2020، ساعيا إلى كتابة نص سردي بحمولة العلوم الاجتماعية والإنسانية معزز بشواهد توثيقية.

وقعت بلادنا مؤخرا اتفاقية مهمة مع الصين لتنفيذ مبادرة الحزام والطريق، لذلك من الطبيعي أن تكون أول فكرة يلتقطها القارئ للكتاب هي “المغرب جسر ذهبي للصين في اتجاه إفريقيا” في علاقته بمبادرة الحزام والطريق أو طريق الحرير الجديد. كيف عنت لك هذه الفكرة؟ هل هي فراسة مؤرخ من وحي اللحظة في آخر اجتماع لكم ببكين كما ورد في الصفحة 149 من نص الرحلة أم يتعلق الأمر بدراسة علمية كما يكشف ذلك الملحق الأخير من الكتاب؟

أشرتُ سابقا إلى مشاركتي في ندوتين علميتين لهما علاقة مباشرة بالموضوع؛ يتعلق الأمر بمداخلتين علميتين ضمن ندوتين دوليتين من تنظيم معهد كونفوشيوس وجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، الأولى تحت عنوان: “المغرب والصين، أفق الشراكة المنتجة”، برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق بالدار البيضاء، في الفترة ما بين 21 و24 أبريل 2016، والثانية بعنوان: “المغرب ورهان الجسر الذهبي بين إفريقيا والصين”، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية عين الشق الدار البيضاء يومي 12 و13 ماي 2017.

في واقع الأمر جرى إنضاج فكرة وعنوان المساهمة العلمية الثانية في خاتمة المساهمة العلمية الأولى؛ إذ توقفت عند سبعة أبعاد مؤطرة ومعضدة لهذا الطرح، هي: الموقع الجغرافي، والبنية التحتية واللوجستيك، والترسانة القانونية والمؤسساتية، والبنية التحتية البنكية والمالية، والبنية التحتية في مجال الاتصالات، والاستقرار السياسي، والرؤية الصناعية الاستشرافية. فالحضور المغربي القوي في إفريقيا على مستوى مجموعة من القطاعات (البنوك، التأمين، الاتصالات، البناء والأشغال العمومية، النقل واللوجستيك، والفوسفاط…)، مكنه من تحويل طريق الملح والذهب، التي كانت تربطه قديما بعمقه الإفريقي، إلى طريق للبنيات الأساسية في مرحلة أولى، ممهدة وضامنة لامتداد منتج لطريق الحرير الجديد نحو إفريقيا عبر المغرب باعتباره جسرها الطبيعي والذهبي.

هذه الخلاصات كانت قد ترسخت لدي بعد أزيد من سنتين من البحث في الموضوع، حملتها معي أثناء رحلتي إلى الصين، وتقاسمتها فور وصولي مع باقي أعضاء الوفد المغربي أثناء نقاشاتنا الأولى الخصبة والكثيفة، وجرى التفاعل معها من طرفهم بشكل منتج وفعال. إلى أن حلت لحظة تقديم وتقييم الحصيلة يوم الاثنين 4 يونيو 2018 بالمقر المركزي للحزب الشيوعي الصيني، أثناء اجتماع أشرفت عليه دائرة العلاقات الدولية للجنة المركزية للحزب بحضور “القادة الشباب الأفارقة” بمناسبة انتهاء برنامج زيارتهم إلى الصين.

المؤرخ بياض: التراث والإرادة والواقعية .. أسرار نجاح التجربة الصينية

كانت الجلسة دسمة للغاية، والترتيبات التنظيمية حصرت تدخلات الضيوف في كلمات رؤساء الوفود. فاعتبرت الأمر منتهيا، بيد أن السيدة ليي شوانغ، السكرتيرة الأولى لمكتب تنسيق الشؤون الخارجية بين الحزب والجماهير بالقسم الدولي داخل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني منسقة هذه الرحلة من أولها إلى آخرها، كان لها رأي آخر؛ إذ فاجأتني بتدخلها في آخر الجلسة، مخاطبة إياي بالقول: من غير المعقول أن يكون بيننا أكاديمي في جلسة تقييم ولا يدلي بدلوه فيها. حاولت الاعتذار بكوني لم أهيئ أي شيء في الموضوع، لكنها دعتني إلى الإسهام بكلمة مرتجلة، في دقيقتين أول ثلاث، من وحي ما تراكم في هذه الزيارة وما يقتضي مقام تلك الجلسة.
كان لا بد لي مما أسماه الفقهاء بتقديم المقدمات وتمهيد الأصول، قبل الانتهاء إلى جوهر ما أريد أن أقول. فالخلفية أكاديمية والمناسبة ديبلوماسية، والنهج ارتجال محاصر بهامش وقت مستقطع ضيق، ينبغي تحصينه من كل انفعال أو اختزال. فقلت: إذا جاز لي أن أختصر تاريخ بلدكم العريق في ثلاث دقائق وأربع محطات، فإنني أقول: أهداكم كونفوشيوس الحكمة وأهداكم ماو تسي تونغ التحرر، وبين هاتين المحطتين عشتم شتى أنواع الاستعمار؛ بدءا بالاستعمار البرتغالي مرورا بالاستعمار البريطاني الذي استعمل الأفيون لغزوكم وانتهاء بالاستعمار الياباني. على أن المحطة الثالثة في هذا التاريخ تم تدشينها سنة 1978 مع عصر الإصلاح والانفتاح الذي منحكم القوة الاقتصادية، فيما المحطة الرابعة سنة 2013 مع طريق الحرير الجديدة جاءت لتكسر حصارا وسعيا للتطويق، وأعادت تموقع بلادكم دوليا في زمن العولمة، وهي الطريق التي تسعى للتمدد إفريقيا على قاعدة رابح-رابح، لكن هذا التمدد يحتاج إلى جسر ذهبي، أراه مصمما بعناية وحسن اختيار في بلدي المغرب، الذي يكفل لهذا التمدد عبورا آمنا ومنتجا.

ما هي الاشتراكية ذات الخصائص الصينية التي تحدثت عنها؟ وهل يمكن القول إنها اشتراكية متعايشة مع الرأسمالية؟ وكيف جرى ربطها بما سُمي بعصر الإصلاح والانفتاح؟

الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، أو ما عُرف بسياسة الإصلاح والانفتاح، هي أسلوب في الحكم والتسيير ونهج في الإدارة والتدبير قاده الرئيس الصيني السابق دينغ شياو بينغ بعد وفاة ماو تسي تونغ سنة 1976. وهي سياسية حاولت الجمع بين التخطيط الاقتصادي والإرادة السياسية وفتح المجال بشكل منظم ومُراقب من طرف الدولة لاقتصاد السوق، مع المحافظة على الهوية الثقافية الصينية، إلى جانب ضرورة مراعاة البعد الايكولوجي.

مع إطلاق هذا المشروع الجديد سنة 1978، تنبأ الرئيس دينغ شياو بينغ بأن الصين يلزمها نصف قرن لتتبوأ الريادة العالمية. ولم يكن في ذلك التنبؤ الأشبه إلى التطلع لا حالما ولا واهما، بل كان واقعيا يعي ما يقول، وهو المستلهم لتجارب مجاورة ناجحة، والمستند في تطلعه إلى نخبة عالمة من الخبراء والعلماء المستوعبين لما جادت به أرقى الجامعات الدولية من أبحاث ودراسات، المدركين لمواطن قوة وضعف كل من الرأسمالية والاشتراكية بنَفَس نقدي، استخرجوا من رحيقه عسل نجاح التجربة الصينية في الإصلاح والانفتاح، عبر صياغة نموذج اشتراكي على المقاس أطلقوا عليه “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”.

لقد اتجه دينغ شياو بينغ، عكس ميخائيل غورباتشوف، إلى عدم القيام بإسقاطات لنظريات أو وصفات جاهزة، بل انطلق من تشرب عميق لواقع المجتمع الصيني تاريخيا وحضاريا، فبحث عن “الحقيقة من خلال الوقائع”، سيرا على نهج معلمه ماو تسي تونغ؛ إذ أراد للجميع أن يكون مساهما في إنتاج الفكرة ومشاركا في تفعيلها، لذلك رأى أنه “ينبغي للشعب الصيني أن يعبر النهر بنفسه ليتحسس عبر هذا التمرين الحصى الموجود في قاع النهر”. ومال إلى البراغماتية، فنهل من الثقافة المحلية بمسقط رأسه في مقاطعة سيتشوان مثلا شعبيا صينيا قديما متداولا فيها يقول: “لا يهم لون القط، سواء كان أبيض أم أسود، طالما أنه يصطاد الفئران”. والفأر الذي كان يريد اصطياده أولا هو الفقر، الذي اعتبر أنه ليس من الاشتراكية في شيء وأنها بريئة منه.

أول محطة لك في الصين كانت في شينزين، كيف نجحت هذه المنطقة في التحول من قرية صغيرة للصيد إلى حاضرة للتكنولوجيا؟

عندما اختار الرئيس الصيني السابق دينغ شياو بينغ مدينة شينزين سنة 1978 لتكون النموذج والقدوة لنجاح سياسة أو تجربة الإصلاح والانفتاح، لم تكن وقتها أكثر من قرية صغيرة للصيادين، لا يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف، لتجسيد انفتاح البلاد على العالم، فجاءت نتائج النجاح متجاوزة لتوقعاته. فبعد أربعين عاما على إطلاق هذا الورش، أضحت شينزين اليوم بعدد سكانها الذي يناهز العشرين مليونا، موطنا حاضنا لنماذج تكنولوجية تعتبر أقطابا للتفوق دوليا، مثل هواوي عملاق معدات الاتصالات التي أدهشت العالم وأربكت حسابات الولايات المتحدة الأمريكية، وDJI الرائدة عالميا في مجال الطائرات المدنية بدون طيار، وبطل الإنترنت Tencent، صاحب تطبيق المراسلة “ويشات” Wechat، وهي الأكثر شعبية في الصين والبديل عن تطبيق “واتساب” في الغرب.

غير أن ما شد انتباهي في هذه المدينة أكثر هو أنها في ظل هذا الزخم الاقتصادي المذهل، ليست لا مدينة إسمنت ولا بيئة للتلوث؛ إذ العجيب الغريب في تجربتها أنها تحقق أرقام معاملات خيالية في فضاء موسوم بالرونق والجمالية. فهي تتميز بخاصية إيكولوجية قَلّ نظيرها في العالم، حيث تحتل المساحات الخضراء في مجال المال والأعمال والابتكار والاستثمار هذا نسبة 45 في المائة، بحدائقها العمومية الغناء مترامية الأطراف، التي يبلغ عددها ألف حديقة. هكذا تتقاسم فضاء المدينة الخُضرة والأشجار والبنايات التي طاولت عنان السماء في شكل ناطحات سحاب، يبلغ عدد ما يفوق منها المئة طابق ألف ناطحة سحاب. أي أننا أمام هندسة إيكولوجية ذكية للمدينة ترفع البناء نحو السماء، فاسحة المجال في الأرض لتمدد المجالات الخضراء. لذلك قلت عنها، في مسعى لتقريب الفكرة للقارئ المغربي، تخيل زخم الدار البيضاء الاقتصادي في بيئة مدينة إفران الجميلة.
محاربة الفقر تعتبر أكبر معضلة تواجهها كل دول العالم، كيف نجحت الصين في هذا المجال في إقليم قويتشو؟

يُعتبر إقليم قويتشو من أكثر المناطق الحاضنة للفقر بالصين؛ إذ توجد به أعلى نسبة من الفقراء. ففي مدينة واحدة من مدنه يوجد أكثر من 700 ألف فقير، وهناك خمس محافظات من هذا الإقليم يتجاوز عدد فقرائها المائة ألف شخص. وللخروج من دائرة الفقر حدد المسؤولون بالإقليم سبع مهام رئيسية:

1- إعادة توطين الفقراء، بما يعنيه ذلك من تطوير المساكن لتصبح أكثر قابلية للسكن.

2- رفع وتيرة تشييد وتوفير البنية التحتية الضرورية، من خلال الحصول على الماء والكهرباء ووسائل الاتصالات، وإيصال الطرق إلى كل الأرياف في ظرف زمني لا يتعدى ثلاث سنوات.

3- مكافحة الفقر من خلال إنشاء وتطوير المصانع، أي إعداد هيكل صناعي وزراعي شامل متكامل ومتناغم.

4- ضمان التعليم والتطبيب والسكن، بإجراء التدخل الضروري وتقديم الضمانات الكافية.

5-اعتماد مقاربة تشاركية في محاربة الفقر بين الدولة والشعب، مع دخول الشركات على الخط للإسهام في هذا المشروع وفق ضوابط محددة.

6- تطوير الإبداع والابتكار في مجال محاربة الفقر، ليتحول الإقليم من الأكثر فقرا إلى الأعلى نموا.

7- دعم النظام التعاوني، عبر مواكبة الفلاحين وتأطيرهم من أجل خلق تعاونيات يكونون مساهمين فيها ومستفيدين منها.

أتيحت لنا فرصة معاينة تجربة في هذا الإقليم تهم محاربة الفقر جديرة بالاستحضار، يتعلق الأمر بقرية هايزي التي لا تتجاوز مساحتها خمسة كيلومترات ونصف كيلومتر مربع، بساكنتها البالغة خمسة آلاف نسمة، الواقعة في موقع سياحي ريفي متكامل جرى معه العمل على تطوير الإنتاج والحفاظ على الصحة والسياحة الترفيهية في وقت واحد.

كان أهل القرية في ما مضى يكتفون بزراعة الذرة بنمط معاشي تقليدي، بيد أن هذا النهج توارى، فاسحا المجال لحقول تتقاسمها الخضروات وأشجار فاكهة الكيوي، بل صارت قاعدة لغرس هذا النوع من الفاكهة على مساحة عشرة آلاف فدان. واعتمدت الإدارة المحلية في عنايتها بمزارعي القرية على نظام تعاوني يتكفل بكل شيء تقريبا في ما يتعلق بتدبير شؤونها؛ فإليه يرجع أمر البنية التحتية وجلب الاستثمارات، مما جعل الدخل الفردي السنوي بالقرية يصل سنة 2017 إلى عشرة آلاف يوان. فصارت القرية الأفضل معيشيا بين مجموع الأرياف الصينية، وأضحت قبلة لوافدين جدد، ناهيك عن سكانها الأصليين، بل حصلت هجرة عكسية، بعدما كان أهلها يهجرونها للعمل في المدن.

ماذا غيرت هذه الزيارة في رؤيتك للعالم؟

في نظرتي للعالم ترسخت لدي قناعة أحملها من منطلق الانتماء إلى حقل معرفي يهتم بدراسة حياة ومسارات الناس في الزمن، ويتعلق الأمر بأهمية إدراك السياقات وتفادي الإسقاطات. أما في قراءتي للتجربة الصينية فقد انتبهت إلى السمات الأساسية التي تسم شخصية الإنسان الصيني، والتي أراها مفسرة لسبب نجاحه، يتعلق الأمر باستلهامه للتراث الفكري والفلسفي والروحي لبلده كشاحذ للهمم، وباعث على العطاء بسخاء من أجل الصالح العام، ثم الإرادة في تحقيق التميز بإصرار وتوفير شروط تحققه، وأخيرا الواقعية والتواضع من موقع القوة. وفي العلاقة مع موضوع الجسر الذهبي، خلصت إلى ما أنهيت به كتابي؛ أي أنه بالنسبة للمغرب سواء كان الشريك قادما من الشرق في إطار الحزام والطريق، أم آتيا من الغرب محمولا على بساط “ازدهار إفريقيا”، أو من أقصى الشمال بحثا عن دفء الصحاري وخيرات الأدغال، سيجد نفسه أمام واقع فرضته الجغرافية ورسخه الاستثمار المغربي في بعديه المادي والرمزي على الصعيد الإفريقي، يجعل من المغرب جسرا ذهبيا ضروريا للعبور نحو إفريقيا.

اعتمدت في نصك الرحلي على سرد سلس ولغة انسيابية وجذابة تشد القارئ، ووظفت شبكة تحليل مستمدة من العلوم الإنسانية والاجتماعية في فهمك لما شاهدته، لكن لماذا رحلة الذهاب والإياب بين الصين والمغرب أثناء تدوين الرحلة؟ هل فقط لدواعي الكتابة وكسر منحاها الخطي أم لمآرب أخرى؟

أشرت في نص الرحلة إلى أنه أحيانا تبدو المقارنة منتجة مخصبة لأفكار الاستئناس بتجارب ناجحة وتبيئتها في التربة المحلية، دون استنساخ ولا إسقاط، لأن أهم درس فيها هو السياق، وأحيانا أخرى يهيمن شعار “لا قياس مع وجود الفارق”، خاصة حين تظهر الهوة التكنولوجية سحيقة ورهيبة. بيد أن الدرس المزدوج للروح الجماعية في مقابل الفردانية والأنانية المفرطة، والكتلة الديموغرافية كرافعة للتنمية ضدا على مالتوسية تبريرية فجة، يبقى خليقا بأن يكون الحصة الأولى ضمن المنهاج الدراسي لمن أراد أن يجلس في الصف الأول داخل مدرسة الإقلاع الصيني، يحمل دفتره ليتعلم كيف يمكن أن يكون نصف قرن كافيا لنهضة تهز العالم هزا.
ما كان يهمني بالأساس هو فهم السياق وكيف حصل التراكم بل والتجاوز، لم أكن أتوهم نسجا على المنوال، لأنني أعي جيدا درس التاريخ المقارن. لكن ألفي الرحلة داخل متن الرحلة ذهابا وإيابا بين المغرب والصين ضرورة إبداعية ومعرفية في الآن نفسه، لأهميتها في عملية الكتابة، بشكل استرجاعي أحيانا، وكسر إيقاع التدوين الخطي الذي ينتج رتابة في الحكي، ولقيمتها في استلهام الدروس، وإغناء رصيدنا من المعارف وتجميع البيانات والمعطيات الدقيقة التي قد تفيد في بلورة تصور تنموي من صميم واقعنا، خاصة وأن فترة التدوين تزامنت وتشكيل لجنة صياغة نموذج تنموي جديد.

الشيء بالشيء يذكر، دعنا نختم هذا الحوار بسؤال عما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من تجربة الصين والتي من شأنها أن تفيد المغرب؟

لم يكن صدفة أن أختم نص رحلتي بما يلي: “حملت معي هذا الزخم في رحلة الأوبة، وتراءت لي الذات في مرآة الآخر، فظهر جليا أننا نحتاج بدورنا إلى استيعاب الكثير من الدروس والعبر المتضمنة في محاضرة الباحثة آن تشينغ بالكوليج دو فرانس وفي غيرها من الدراسات، لتفادي اجترار المعتاد والمألوف مع الغرب في مخاطبة المستثمر الصيني والتاجر الصيني والسائح الصيني. فلهؤلاء ثقافتهم الخاصة وبنيتهم الذهنية المختلفة، اللتان تحتاجان إلى فهم عميق وإدراك دقيق لتيسير تدفق الاستثمارات وإنجاح الصفقات وتوفير منتوج سياحي يراعي تمايز الثقافات وتباين العادات. إذ يبدو أن سؤال الدرس الافتتاحي جاء محكوما بمنزع إشكالي يُسائل نمط تفكير الإنسان الصيني، ويمعن في تدقيق نوعيته التي هي بكل تأكيد خاصة ومختلفة، تستدعي تعاملا يُراعي خصوصياتها”.

أعتقد أن شبكات التحليل الكلاسيكية التي تقترحها مختلف فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية لا يمكن توظيفها بشكل ميكانيكي لفهم الإنسان الصيني، بل لا بد من فهمه في سياق تطوره الحضاري وفهم عاداته وأذواقه، لتيسير عملية جذب السائح والمستثمر والخبير. وربما احتجنا إلى تكوين العشرات من العارفين بخبايا الذهنية الصينية قبل المئات من المرشدين السياحيين الذين لا يتقنون فقط اللغة الصينية، بل والمتشربين أيضا لطبيعة الشخصية الصينية وخصوصياتها الثقافية وأنماطها الذهنية. هكذا يمكن أن نكسب الرهان في العلاقة مع عملاق آسيوي في مرحلة وثوب اقتصادي وعلمي وتقني، ونستفيد من خبراته في شتى المجالات، ونربح فعلا شراكات منتجة على قاعدة رابح-رابح.